مونــيــه عمود الضوء الانطباعي
ربما كان عدد من الفنانين الانطباعيين مأخوذاً بحكمة معاصرهم الشاعر ( مالارميه ) 1848 ـ 1898 بخصوص ( المصادفة ) في العمل الفني ، استناداً الى قوله ( ضربة النرد لن تلقي المصادفة أبداً ) ، خصوصاً و ان الشاعر قد أثبت ، في ذلك الوقت ، تصميمه على هدم كاتدرائيات الشعر التي اُسست و بُنيت عبر قرون التاريخ الماضي للشعر ، و هو ما يتوافق تماماً مع ماذهب اليه الرسامون الانطباعيون بشأن الرسم .
في هذا الشأن ، كان ( كلود مونيه ) 1840ـ 1926 ، الى جانب ( بول سيزان ) 1839ـ 1906 ،أكثر الفنانين الانطباعيين ابتعاداً عن الانصياع الى أمر ( المصادفة ) . و هو بالرغم من تمرده على جحفل كبير من أسلافه الرسامين ، حتى الذين تتلمذ على فنهم ( كورو ، دولاكروا ، كوربيه ... ) الا ّ انه كان نبيلاً مع نفسه في التعامل مع حقائق الرسم ، بعيداً عن الانفعالات أو الانقياد وراء ( المقولات ) أو الانصات الى صدى الصرعات .
كان مونيه عنيداً في الاخلاص لتجربة جديدة في تاريخ الرسم ، هو عارف انه غير قادر على تحقيق منجزها لوحده ، ولكنه ـ بالقدر ذاته ـ كان مدركاً انه من الخطأ الانقياد وراء ( الجماعة ) بحجة ( التضامن الفني ) . كان مونيه يدرك انه ينضوي تحت لواء جماعة مغايرة ، مؤسِسة لفن جديد ، ولكنه كان حساساً تجاه ملاحظة دوره في منجزها ، لابهدف الهيمنة بل بهدف أن يكون له ( لون ) خاص في لوحة هذه الجماعة ، ضمن التأسيس الجماعي .
على خلفية ذلك عُـرف عن مونيه عناده و صعوبة مراسه ، و حتى عدم رغبته في الانضواء تحت ظل ما هو (رسمي) في الحياة الفنية في باريس . بل انه ابتعد ـ أصلاً ـ عن كل المناخ الفني في العاصمة الفرنسية ، حتى ليبدو انه قد قرر في دواخله الابتعاد عن ( مختبر ) الفن الجديد الذي أسهم ، هو ، في تأسيسه ، من أجل أن يراقب نتائجه عن بُعد . إن مونيه ـ بهذا ـ قد بدا كما لو كان عفيفاً حتى عن الاعتراف بمنجزه الذي اسهم ، مع منجزات زملائه ، في إبهار باريس ، و بالتالي عواصم اوربا كلها . كان يريد ماهو ابعد من ذلك . انه يبحث عن بصمته الخاصة في الفن و يريد أن يضع ( أثره ) بعيداً عن أي تأثير خارجي عليه .
كان (إدوارد مانيه ) 1832 ـ 1883 ـ رائد الانطباعية الأول و رفيق مونيه ـ قريباً من خطى الشاعر ( بودلير ) في اعتبار ( الأناقة ) مذهباً في كل شيء . لكن مونيه ذهب الى غير هذا ، ذهب الى البحث عن الأناقة ( الداخلية ) للموضوع في الرسم ، و بهذا انحاز الى تأثير ( الزمن ) على هذه الأناقة ، سواء على جانب الأشخاص أو الأماكن التي كانت الموضوع الأثير لدى مونيه . و اذا كان الانطباعيون ، و أولهم مانيه ، قد جعلوا ( المكان ) في الطبيعة مركز اهتمامهم ، فأن مونيه قدأضاف الى الانطباعية بُعداً آخر ، ربما كان جديداً في الرسم ، هو بُعد ( الزمان ) و تأثيره على ( موضوع ) اللوحة . يتضح ذلك جلياً في أعماله التي اتخذت من أماكن مختارة مواضيع لها ( كاتدرائية روان . بحر المانش . نهر التايمز. مبنى البرلمان في لندن . مدينة البندقية . محطة سان ـ لازار بباريس . نهر السين ، الذي رسمه لمدة ثلاثة عشر عاماً ... ) وهي أعمال أولت اهتمامها الأول لتأثير ( الزمن ) على الموضوع ـ يومياً ، أو في مختلف ساعات النهار ـ فيما يتعلق باختلاف درجات الحرارة، و الضوء ، و الغيوم ، و الضباب ، و الأمطار، و الصحو ، و الأعاصير ... فمونيه كان من أكثر رسامي الانطباعية انفعالاً تجاه الطبيعة ، أو أكثرهم معاناة ً في التعبير عن تحولات الطبيعة ، و هو الأمر الذي يفسر انشغاله في رسم أماكن محددة مرات كثيرة عبر أوقات زمنية مختلفة ، في الفجر أو الصباح أو الظهيرة أو المساء ، أو عبر فصول مختلفة ، بما تحمله من متغيرات مناخية . و عليه فقد كان مونيه ( غير المتأثر باللوفر ) من أشد الفنانين تحريضاً لجماعته على الاندماج مباشرة مع الطبيعة و الخروج علناً على تقاليد فن الرسم المترسخة عبر قرون، و إحداث نوع من تأجيل العلاقة مع الأستوديو ، إن لم يكن نوعاً من القطيعة .
ولكن هذا الأمر قد حدث لدى مونيه بفعل تأثير صديقه الفنان ( يوجين بودان ) . كان ذلك أمراً مهماً لم يدرك أحد تأثيره أول الأمر ، الى أن باتت واضحة ـ فيما بعد ـ نتائج هذا ( الخروج ) و الأثر غير العادي الذي يُحدِثه ضوء الطبيعة على الموضوع ، و الذي صار الفنان الانطباعي ـ في ذلك الوقت ـ في مواجهته و هو يشعر بالغثيان من (التخمة) التي أحدثتها في مخيلته أعمال الفنانين الكلاسيكيين في المتاحف .
إن مونيه ما كان مأخوذاً ، أبداً ، بمقتنيات متحف اللوفر ، بل كان معنياً بما يفيده في تنقيح رؤيته للطبيعة ، و هو ما يفسر لنا خروجه على التقاليد المتبعة لدى زملائه في تقليد تلك المقتنيات ، و خروجه الى حديقة اللوفر ذاته و رسمها . ولكن علينا أن لا ننسى أن الفنان العظيم ( مانيه ) هو أول من رفس الباب لينفتح على ( الانطباعية ) الحقة ، غير أن أول من أقدم على الولوج عبر ذلك الباب ، بثبات ، هو مونيه .. بكل ألوانه و ( أضوائه ) .
لقد نظـّم مونيه أعماله وفق جدولين أساسيين يتعلقان بالمكان و الزمان ، من خلال سلسلة لوحات منظمة و مدروسة لأماكن محددة ، حتى انه راح في بعض الأحيان يرسمها عن ظهر قلب ( كما هو الحال مع بعض لوحاته عن مدينة البندقية ) . و فيما يتعلق بهذا الأمر فأن كشوفات و محاولات مونيه طالت ( منطقة ) غريبة يتداخل فيها الزمان و المكان معاً ، سواء في الواقع أو على سطح اللوحة ، و هو ما يحمل في طياته دلالات رمزية لم تكن معروفة بعد في فن الرسم ، و حتى قبل الاتجاه الرمزي الذي ظهر لاحقاً ، و الذي كان ( بول غوغان ) 1848 ـ 1903 أحد أهم أعمدته .
لقد انتقل مونيه في أعماله من المكان الثابت الى ( شبه ) المكان ، المتغير بين لحظة و اخرى . فبعيداً عن الغابات أو المدن أو البنايات ، التقط مونيه صفحة الماء ، غير الثابتة ، و تأثيرات الضوء و متغيراته عليها ، تبعاً للحركة الباطنية التي تحدث فيه بفعل الأشياء أو الرياح أو الأمواج أو الجريان ، ومن ثم انتقل في رسومه ( خاصة عندما رسم محطة سان ـ لازار ) الى التقاط موضوعة ( الدخان ) الذي تنفثه مكائن القطارات ، و شكله الذي يمور بحركات داخلية و خارجية ، و سطوحة المنحنية و انعكاسات الضوء عليه و بالتالي الأشكال التي تنتج عن حركته ... هاتان اللقطتان ( الماء و الدخان )لا تمثلان المكان تحديداً و لا الزمان تحديداً ، انهما شيء من هذا و شيء من ذاك ، أو انهما كلاهما معاً ، متداخلان بفعل عبقري .
مونيه ، عندما رسم سلسلة لوحاته عن الأماكن ، إذ وثــّق جمالياتها عبر أوقات مختلفة ، لم ينقل فقط المتغيرات الفيزيائية التي تحدث عليها ، نتيجة تغير زاوية النظر أو تأثيرات المناخ أو الضوء ، بل نقـلَ ( الاحساس ) المتغير لدى الفنان في كل مرة ازاء موضوعه ( الأمر الذي يقرّبـُـه من سيزان ) ، لذلك نجد أن بعض الأماكن المعروفة ، الواضحة المعالم ، التي رسمها ضمن هذه السلسلة ( مثل كاتدرائية روان ، أو بناية البرلمان في لندن ) انما تلاشت ملامحها في اللوحات المتعاقبة ، لوحة ً بعد اخرى ، حتى لم تعد هذه الملامح ، في النهاية ، سوى أشكال ضبابية أو بقايا معالم أو شبه ذكرى بعيدة .. و هو ما درج عليه بوضوح عندما راح يرسم الزنابق المائية و أشجار الصفصاف و النرجس و النباتات الأخرى المحيطة ببركة حديقته ، بطريقة انتقالية ، على ذات المنوال ، حتى لم تعد تلك النباتات غير نقاط متشابكة الالوان و متداخلة الأشكال من خلال خطوط لونية . هذه الخلاصات التي توصل اليها مونيه في أعماله كانت موضع استغراب مجايليه الرسامين و هجوم نقاد الفن في ذلك الوقت . لكن مونيه كان سعيداً بنتائجه . و لعل هذه النتائج هي الأرضية التي أسس عليها الفنانون التجريديون ، فيما بعد ، فنهم في القرن العشرين . فتحولات الأشكال ، هذه ، هي التي قادت ( بيت موندريان ) 1872 ـ 1944 الى التجريد الهندسي و قادت ( كاندنسكي ) 1866 ـ 1944 الى التجريد الروحي .. و كلاهما عمودا ( التجريدية ) البارزان في القرن العشرين .
إن تكريس مونيه جهوده في اشباع موضوعاته ، حد المرحلة التي يجد فيها كفايته ، قد ولـّد لدى متابعي أعماله احساساً بأن أياً من هذه الأعمال سيكون ناقصاً بدون مشاهدة الأعمال السابقة عليه أو اللاحقة ، و هو أمر شكـّـل معضلة حقيقية لدى مونيه في إقناع الآخرين بحقيقة ( معنى ) فنه ، على الرغم من اعترافهم بحقيقة موهبته و أهمية مكانته . و أعتقد أن مونيه كان مأخوذاً بأنه سيعيش زمناً كافياً ( ستة و ثمانون عاماً ) حتى يفرغ آخر شحناته في أعمال كافية ، لتدل على ( المنعطف ) الذي كان مسكوناً بهاجس الاشارة اليه طيلة حياته الفنية .
كان مونيه يردد ، دائماً ، عبارة أثيرة لديه : ( نحن نرسم كما يغني الطير ، الرسوم لا تصنعها الشرائع ) . هذه العبارة ـ على بساطتها ـ كانت تدل على أمرين ملازمين لمونيه نفسه ، الأول : إن فن الرسم لديه أمر غريزي يسكن كيانه و يحرك حياته و يُـعَنـْـوِنُ وجوده في العالم . و الثاني : هو الخروج على القواعد و الثوابت و التعاليم في فن الرسم ، بمعنى : امتلاك الحرية في اختيار الكيفية التي ينجز فيها الفنان أعماله . ولكن ، في كلا الحالتين ، لايعني ذلك أن حياة مونيه و وجوده الفني تقودهما غريزة عمياء . فغريزته الفنية حقيقة قائمة في وجوده الشخصي ككيان انساني متفرد في مساحة الوجود الكلي للعالم ، و خروجه على القواعد هو ضرب من الحرية التي تدعم وجوده كفنان . و هذان أمران يعيهما مونيه تماماً و يدرك أبعادهما ، و هما بقدر ما يشحنان طاقته الابداعية بكل ما من شأنه أن يأتي بالجديد و المغاير ، فهما يخضعان لسيطرته الواعية . فمونيه لم يكن مأخوذاً باللوفر الذي كان قِـبلة جيله . كان يكتفي منه بما تولـّده لديه مقتنياته من دفء و هو يرى المنجز البشري في الفن عبر التاريخ . ولكنه وبواسطة هذا الدفء ، ما كان يبحث عما يحافظ على ذاكرته بل عما يخلق ذاكرة جديدة لدى الأجيال القادمة ، دون أن يقدم مقترحاً بترشيح نفسه لهذه الذاكرة ( إنه كان يرسم كما يغني الطير .. فقط ) . لقد كان يراقب صدى الماضي في آفاق المستقبل الذي أسهم هو ، فعلاً ، في صنع فنه .
علينا أن لا ننسى أن مونيه هو أو ل من غيّـر منظور المشاهد ( و ليس منظور الرسام ، كما فعل سيزان ) تجاه اللوحة ، فالمنحنيات في الاطار هي من مبتكراته ، و سعة مساحة اللوحة ( بمقياس عشرين قدماً عرضاً ، و عشرة أقدام ارتفاعاً ، كما هو شأن لوحاته التي عرضها في متحف الأورانجيه بباريس ) هي ابتكار من مونيه أيضاً ، و هو ما لم يسبقه اليه أحد . و حتى الرسوم التي تركها رسامو الكهوف قبل آلاف السنين على جدران كهوفهم ، أو رسوم جدران و سقوف الكنائس التي نفذها رسامو عصر النهضة في ايطاليا من مثل ( مايكل أنجلو ) و ( رفائيل ) و ( دافنشي ) ... و غيرهم ، انما كانت رسوماً محكومة بمقاييس الجدران أو السقوف التي رُسمت عليها ، فيما أن ما فعله مونيه هو انه أخضع الجدران لرسومه و ليس العكس ، كما كان الأمر لدى الأسلاف . و ما ابتكره مونيه ، بهذا الخصوص ، راح رسامو نيويورك يحتذون به أواسط القرن العشرين ، فحصدوا نتائج جيدة ربما كانت تتوافق مع طبيعة الصرعات ، ولكنها ـ في النتيجة ـ واحدة من مبتكرات مونيه ، الفرنسي ، ابن القرن التاسع عشر.. و عمود الضوء الانطباعي الشاخص في منعطف الفن المعاصر .
Bookmarks